القصة القصيرة الفرنكفونية
المرجعية ـ إشكالية المفهوم ـ التحولات
الإديولوجية
عن : ( الجمعية الفرنسية لنشرالفكرالفرنسي )
لامراء في أن الأدب الفرنسي بجميع مكوناته السردية قد بصم الإبداع العالمي بروائع قصصية وروائية ومسرحية لم تطلها يد الدهررغم مرورعشرات القرون على ولادتها .. ولامراء أيضا أن القصة القصيرة الفرنسية قد حظيت بعالميتها (إدغرألان بو _ موباسان _ باربي دوريفيل _ بالزاك _ ميريمي ) وغيرهم ، من خلال العديد من الأضاميم القصصية التي ساهمت في تشكل الوعي الإنساني إذ كان هذا الجنس السردي وعاءا حكائيا لتفجيرما يعتمل من تصورات ورئ في الفكرالفلسفي الفرنسي وحيث كان هذا الجنس السردي أيضا مجالا لتأريخ التحولات الإديولوجية التي شهدتها البنية الثقافية الفرنسية منذ قرنين من الزمان ... وتقدم هذه الترجمة التي أطلقتها الجمعية الفرنسية لنشرالفكر الفرنسي ( A.D.P.F ) ؛ دراسة شاملة عن القصة القصيرة الفرنسية على مستوى المرجعية والبعد التاريخي والجمالي وإشكالية المفاهيم وتعددها وأخيرا التحولات البنيوية التي ساهمت في بلورة وعي بالدلالات المهيمنة على النص القصصي منذ بداية القرن العشرين إلى حدود أوائل القرن الحالي .
في التعاريف البيبليوغرافية الأكاديمية ( ديوي ) ( Dewey ) التي تستند إليها دور نشر المصنفات الأصيلة .. نجد تعريفها في
باب الرواية والقصة ، بشكل مقتضب فحسب ...أما في رأي النقاد والقراء ، فالقصة القصيرة نوع أو تحديدا جنس سردي ذي أقانيم حكائية محدودة . إن هذه الأقانيم هي أكثر غموضا والتباسا مقارنة مع التحديدات النظرية العامة .
بالنسبة لبعض المهتمين بحقول السرديات ، فالقصة القصيرة الحديثة هي شكل سردي نثري قصير .. واقعي ، لاتقتعد على زمن محدد ..
تمضي دفعة واحدة إلى نهايتها .و بالنسبة للبعض الآخر فهي جنس سردي أحادي الصوت ، ذي حقيقة متفردة ، بينما الرواية فهي متعددة
الأصوات .. في رأي بعض النقاد ، هناك قصة طويلة غيرأنها لاتنتمي لحقل الرواية ، و رواية قصيرة لاتنتمي بالضرورة لحقل القصة. وإذا انتقلنا من هذه التعاريف البسيطة إلى بدايات النشأة فالبعض ينسبونها إلى أبيها الروحي "موباسان" حوالي القرن التاسع عشر.
بعض الأدباء والباحثين يرفضون الحديث عن القصة القصيرة كجنس سردي قائم بذاته ... ففي تصورهم لاوجود لقصة قصيرة، هناك فقط كتابات معزولة وغير قابلة للإختصار. وأخيرا نجد كتابا معتدلين يؤيدون المواقف النقدية البينية ويأخذون برأي تعددية الجنس القصصي كماهو الشأن في مجال الرواية على مستوى تعدد الأصوات والأفضية والأزمنة ...
القصة القصيرة الفرنكفونية جنس سردي وجيز، متعدد المفاهيم والمصطلحات . جنس سردي مطروق باستمرار، غايته الإفصاح والبوح باعتمالات الذات المنكتبة بأقل رصيد لغوي محتمل ...
قصة قصير .. متوسطة .. طويلة.. رواية قصيرة .. "النوفيلا"nouvella ... كل هذا الزخم من المفاهيم يكشف جليا عن لبس عام
وشامل ، فالقارئ الذي يدخل عالم القصة القصيرة الفرنكفونية، فإنه من دون شك سوف يضع قدميه على أرض لزجة أوحقل ملغوم بسبب هذا التعدد في المفاهيم وعلى الخصوص مفهوم "النوفيلا والذي لن يغمرنا على ما يبدو برؤية شاملة ونهائية ... بل سيكون فقط تصورا
مجانيا يمدنا باختيارات ووسائل للمقاربة غير ذات جدوى ، وسوف تقود المتلقي حتما إلى حزمة من المعلومات التي قد يتيه فيها...
من المفروض إذن أن نحدد تمييزا لمفهوم القصة القصيرة ("نوفيل" nouvelle ). إننا باختصار نتحدث عن الحكي الوجيز .
يقول الكتاب البراغماتيون بالجنس الوجيز( ( genre brefونحن في رأينا نتجنب مفهوم ( وجيز) ، لأنه مبتذل وأجوف ...
إذا كان "genre" "جنس" مفهوما مقبولا على مستوى تعددية ونثرية النصوص القصصية فهذا لن يمنعنا من أن نتلمس من خلالها خطوط تقاطعات وبالتالي يصير بإمكاننا أن نقترح لها منظوزا دلاليا شاملا.
إن معيارنا هنا هو القيمة الأدبية الخام للأعمال القصصية . إنها ذات أولوية مهمة جدا وهي التي تحقق للنص استمراريته ... وهناك عامل آخر عدا ذائقة المتلقي ؛ فقد يحدث أن لا نتفاعل مع مجموعة قصصية ما دون أن يمنعنا موقفنا القيمي هذا من القول أنها غير قابلة للقراءة ، والكتاب المتألق هو الذي يزداد عشقنا له كلما أعدنا قراءته ، أو قد نعشقه لشكله ولغته وأسلوبه ولقدرته الساحرة على أسرنا أو ربما لهذه العوامل جميعها .
معيار القيمة الأدبية هذا يفسر بل ويعلل انبثاق مجاميع قصصية كثيرة لمرحلة ما بعد 1980 . إن هذا المعيارسوف يسعفنا على مقاربة بعض النصوص القصصية التي من دونها لن يكون باستطاعتنا أن نلامس شكل أو حركية النص القصصي ...
يبدو من جانب آخر أننا إلى حدود الآن لم نثر القيمة الرمزية التي هي القيمة المضافة إلى جانب القيمة الأدبية الخام التي تهتم أساسا بعتبات النص (الشكل المادي للأثر، صورة واسم الكاتب ، العنوان ، المرفقات الأخرى...) فبدون القيمة الرمزية لن يكون هناك اهتمام
بالقيمة الأدبية .إن لها تأثير السراب ، فهي تنمي وتثري الرغبة الجوانية الفردية والجماعية، حيث أن فعل القراءة هو قبل كل شيء رغبة تتأثر وتضطرم مثلها مثل الرغبات النفسية الأخرى ...لكن يجب ألا نربط أي عمل قصصي بأهمية عتباته فحسب . ويبدو أننا لم نأل اهتماما إلى الآن بالجانب الإقتصادي المادي ولا بعامل التداول أو عوامل سوق النشر . هذه العوامل ليست دائما هي القوة الرمزية للكاتب ، فقد يحدث أن نجد كاتبا مشهورا لكنه معوز في نفس الوقت ... فالشهرة ليست دائما علامة على الثراء المادي . وبالرغم من أن القيمة الإقتصادية المادية تلعب دورا هاما في ارتفاع نسبة المقروئية فهي ليست دائما معيارا حاسما للجودة .
وفي نهاية هذا التقديم يجب أن نتوقف عند تحديدين هامين : إن كتاب القصة القصيرة الفرونكفونية هم في الغالب روائيون وكتاب سيناريو أو شعراء ... وهذا يدل على أنهم على دراية بمسارات وتقنيات السرود الطويلة ... بمعنى آخر أن لهم القدرة على الإنتقال بين النفس
الطويل (الروائي) والنفس القصير (القصصي) حسب ماتمليه عليهم عوالم النص الحكائي .
إن القدرة على النشر تلعب دورا أساسيا في حياة الكتاب . لقد كان القرن السادس عشر زمن نهضة القصة القصيرة بامتياز على صفحات الجرائد . كان عصرا ذهبيا مع إبداعات (فلورانس كويي)، وكان وقتئذ (موباسان) منسجما مع قرائه إلى حد الإنصهار ... وكانت القصة المنشورة على صفحات الجريدة تلتزم ب (دفتر تحملات) يوثقها بتيمات محددة وجماليات خاصة .
مع إنشاء جائزة (الغونكور) سنة 1974 حدث الإحتفاء بالقصة القصيرة على مستويين : مستوى صدورها بالجريدة وعلى مستوى إصداراتها كمجاميع قصصية . ومنذ سنة 1979 توقفت جائزة الغونكور عن تتويج القصص الصادرة على صفحات الجرائد بسبب اختلالات عديدة في الإختيارات . وإذا كانت جريدة ( le monde de dimanche ) على مدى ثمانينيات القرن الماضي قد نشرت العديد من القصص على صدر صفحاتها ، فإن وضعيتها المادية قد حتمت عليها التوقف عن هذا التقليد الإبداعي الذي أصبح يعتبر ترفا أدبيا ضافيا، وليس ضرورة ثقافية كما أن المجلات المنفتحة على مختلف أنواع الإبداعات الأدبية قد توارت لتترك الساحة لمجلات
التخصصات العلمية والفكرية والسياسية والإقتصادية . هذه التقلبات البراغماتية والمادية حسمت في دعم الصحافة للإبداع القصصي الذي عرف تراجعا على مستوى النشر الصحفي وبالتالي خفتت أصوات الكثيرمن الكتاب بل لنقل أن هذه الإنعطافة كانت عملة بوجهين، وجه سلبي أشرنا إليه سابقا ووجه إجابي تمثل في تحررهم من ( دفتر التحملات ) الذي تفرضه ضمنيا ضرورة النشر في الجرائد.
انسداد الأفق التواصلي بين القصة وقرائها فتح في المقابل أبواب دور النشر التي كانت حافزا قويا على الإهتمام بجماليات النصوص القصيرة وعموما جعل الإبداع القصصي ينخرط في الرهانات العامة للأدب .
وإذا كانت القصة القصيرة قد انبعثت من رمادها مرحليا فهذا ليس سرا غريبا والسبب الأساسي يعود إلى التطور الهائل في صناعة النشر وليس للكتاب الذين هم في غالبيتهم روائيين والسبب الثاني يعود قبل الحرب العالمية الثانية لدور النشر المتوسطة والكبيرة ، فقد استطاع (بول موران ) من إدارة أشهر دار نشر فرنسية ( كاليمار) وصدرت في عهده سلسلة ( collection ) بعنوان la rennaissance de la nouvelle) ) ، وقد استطاعت هذه السلسلة تحقيق انتشار واسع وهكذا سنرى بعد ذلك بسنوات عديدة منذ 1978 كيف استطاعت داران للنشر هما ( بلان ) ودار ( رامساي ) إصدار سلسلتين رائعتين وشهيرتين هماعلى التوالي : ( l’instant romanesque ) بين سنتي 1978 و1983 و سلسلة ( mots ) بين سنتي ( 1978 و 1992 ) الشيء الذي حقق للإبداع القصصي القصير قوة واحتفاءا لائقين بهذا الجنس الحكائي الرفيع تمثل في عودتها إلى صفحات المجلات وأبهاء دور النشر الراقية.
لامراء في أن التقلبات السياسية العالمية ما بين سنتي 1950 و 1980 قد تسببت في انخفاض وتيرة النشر، فلقد تم نشرمعدل ثلاثين مجموعة قصصية في السنة تقريبا وخمسين مجموعة قصصية في السنة مابين سنتي 1978 و1980.
ومنذ سنة 1985 وبالتئام الجهود تم إصدار معدل تسعين مجموعة قصصية في السنة . ومنذ 1992 وبسبب أزمة بداية التسعينات انخفضت الإصدارات إلى خمسين من جنسي القصة والنوفيلا ، أما في سنة 1999 فقد بلغ عدد المجاميع القصصية 120 استجمعت جلها من روائع المسابقات الأدبية في القصة .
إن عودة القصة القصيرة إلى رحمها على صفحات الجرائد والمجلات الموسمية وخصوصا الصيفية منها فرض مرة أخرى إرغامات ما سمي ب ( دفتر التحملات ) والإذعان لطلبات سوق القراءة ...
هذه الشروط البنيوية والمادية بالأساس خلقت لعالم الأدب منطقه الخاص . فقد أصبحت صناعة الكتاب هي من لها القوة والقدرة على قبول أو رفض الأعمال الأدبية والتيارات الفكرية وأصبحت هي الناقد الأول قبل الناقد المتخصص والحكم الأخير الذي يوقع على مصيرها إلى سوق القراء أو إلى سلة المهملات...
هذا الرصد الأولي يعد أساسيا وتوطئة للعملية النقدية التي سنباشرها في الأعمال القصصية الحديثة. ولكي نحقق هذه الغاية عمدنا إلى تجزيء هذه الحقبة إلى مرحلتين : ما بعد الحرب العالمية الثانية بين 1950 و 1980 ثم ما بعد 1980 إلى أواخر القرن الماضي.و سنعتمد في هذه المقاربة النقدية على مبدعي القصة القصيرة الذين هم في نفس الوقت روائيين .
جل النقاد يتذكرون إشكالية السرد في الرواية الجديدة ، البدايات ، السياقات ، والنهايات الإستشكالية ، المستحيلة : (بيكيت) و (بينيي) على سبيل
المثال ... كتابات (بيكيت ) المتشظية حيث الصوت يمضي إلى حدود التجربة الوجودية ... ولكل ما سبق علاقة رمزية بموضوع الإنسان الآتي من جحيم الحرب العالمية الثانية ... الإنسان المدمر ووريث سؤال العصر القلق ... السخرية وواقع العشق الأول للكاتب ( بيكيت ) أنتجا كاتبا آخر هو ( كافكا ) . في هذه المرحلة ظهرت أيضا القصص اللاواقعية ل ( روني بيليتو ) والتي أعيدت قراءتها من جديد وهي تصب في نفس المجرى التجريدي ونسوق هنا مثلا قصة (la vie révée ) ، وخلافا لهذا أصدرت ( ناتالي ساروت ) في سنة 1980 نصوصا قصيرة ذات أصوات متعددة في مجموعتها القصصية ( l’usage de la parole) .
بعد الحرب العالمية الثانية استمر رفاق السريالية في مساراتهم الإبداعية مثلما هو الأمر عند ( أركون ) في إبداعه القصصي ( mentir_
vrai )الذي يمزج بين القصة ومطلع الرواية ومغامرات اليومي ( le quotidien ) وأفكار مختلفة حول كتاباته ما بين سنوات 1960 و 1970 . ونفس الأمر بالنسبة ل ( أندري بيير ) و( مانديارك) في قصصه الإيروتيكية التي استلهمت من ملامح السريالية أجواءها السردية و(هنري طوماس ) أيضا في ( حصون نتردام ) سنة 1977 ، وأخيرا ( كينو) في أضمومته ( حكايات ومراسلات ) بين سنوات 1922 و1971 التي تميزت بمسحات السريالية التجريدية المتعالقة مع منمنمات شكلية ... عكس ( جوليان كراك ) الذي ظل وفيا
لقصيدة النثر ( الرامبالدية ) أو السريالية . وبعد هذه التجربة توقف في نصف المسار السريالي كي يستلهم إبداعاته من التيار الكلاسيكي الذي ينشغل بالجانب الشكلي خصوصا في رواياته وقصائده النثرية . أما بالنسبة ل ( جوليان كرين ) الذي تراوحت كتاباته اللاواقعية بين الشعور بالذنب والوازع الروحي ؛ فقد ساقته تجربته هاته إلى ارتياد عوالم الفانتاستيك ونعطي مثلا هنا بقصة ( le voyageur sur la terre ) .
في كتابه اللاذع ( la litterature à l’estomac ) الصادر سنة 1950 رام ( كراك ) أساسا أدب الإلتزام .. أدب ال ( لا) بمعنى رفض
العالم ، رفض الشعور بالذنب والقلق الوجودي... فقد استطاع أن يضع فرضية (الإختيارات) من خلال خطاب صريح وواضح مفاده أن الشعر قد تقهقر بعد الحرب العالمية الثانية ، وأنه قد أصبح أكثر ( سوداوية ) برفعه لشعار ال ( نعم ) ولقبوله اللامشروط لمظاهر عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ، و جاء هذا التيار( السارتري) ــ نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي الوجودي ( جون بول سارتر) ــ لفرض هذه ال ( لا ) ضدا على الشعر السائد زمنئذ .
كان هذا النداء أكثر صراخا لدى ( جون جيونو) من ( كراك ) . فقد واصل في أعماله النثرية المتألقة و الرائعة توجهه بين القصة
القصيرة والقصة المتوسطة . هذا الإختيار أظهر هشاشة مفهوم ( قصيرة ) خصوصا في عمله القصصي ( la solitude de
pitié la) . أما الكاتب ( لويس روني دي فوري ) في نصوصه الخمسة (la chambre des enfants ) فقد ربط بين الإنطباعية المغرقة في الذاتية وبين معنى الزمن والمتخيل .
تفضح قصص الحرب والمنفى ل ( بيير كاسكار ) بعنوان ( النساء ) سنة 1955 أقدارا درامية ضمن تاريخ جماعي ، إنها قصص تتقاطع مع سينما الواقعية الجديدة . واستمرارا لخط الرواية والسينما السوداوية الفرنسية بين الحربين نعثر على قصص بوليسية ل ( جورج
سيمون) إو ( الفصول الأربعة ) ل ( أنطوان بلودان ) ، إنها مجموعة من الصور الإثنولوجية للحياة الشعبية حيث ا لشخصيات ذاعنة لأقدارها ...
ودون ( هنري بورات ) بين 1950 و 1960 ذاكرة المحكي الشعبي القاتم بحس قوي بنهاية مرحلة ، أو بالأحرى بنهاية حضارة تحتضر كان من الأولى الحرص عليه .
كانت سنوات الستينات والسبعينات حقبة الماركسية واللينينية والفرويدية والبنيوية . كانت عصر الإحساس بالذنب ... وعصر النقد الجديد
العصر الذي استند إلى حكايات وقصص القرون الغابرة_ ( بوكاس) و ( بالزاك )_ من أجل تشكيل نماذج للسرد الفرنسي ، غير أن الكتابات القصصية الراهنة قد أهملت هذا الصنف من الأعمال السردية الكلاسيكية .
وتميزت فترة الثمانينات بتراجع الرواد الطليعيين وإعادة صياغة الأسئلة الملحة حول تجريب أشكال سردية أخرى ، وتميزت أيضا بتحولات في الملامح الثقافية الأوربيةعموما مع هبوب رياح الدموقراطية والبيريستريكا على المعسكر الشرقي ... وبنهاية مقولة ( الحداثة )
بعد رحيل مفكرين متألقين أمثال ( سارتر) و ( بارت ) و ( فوكو) وتميزت هذه العشرية أيضا بتجاوز مفهوم مابعد الحداثة (لجون فرانسوا
ليوتار)إنها إذن مرحلة ما بعد الماركسية ، مابعد الفرويدية ، ما بعد البنيوية ... وقد ظهرت مجلات مثل : ( le debat ) سنة 1980 التي
كان يرأس إدارتها ( بيير نورا ) ، كما أن مجلات ( tel quel ) و ( change ) ذات النزعة البنيوية غيرت تصوراتها وعناوينها فأصبحت على التوالي : ( l’infini ) و ( change international )
إنه في العمق تحول في علاقات القوى . فقد أصبح الأدب أقوى من التيارات الفلسفية السائدة ( philosophisme ) في الأعمال الفكرية عامة .
إن عودة السرد بقوة للساحة الفكرية كما أكد ( بول ريكور) في 1984 بعد أن اعتبر طيلة العشريتين السابقتين مجرد مفهوم متجاوز وفاقد
للصلاحية ( perimée ) يرتبط أساسا بالعودة لسؤال الذات مع ظهورانطلاقة جديدة للسيرة الذاتية خصوصا عند الروائيين الجدد . ولقد رأينا في هذه العشرية الثمانينية عودة لعامل المؤلف بعد مقولة ( موت المؤلف ) التي أطلقها ( رولان بارت ) وعودة للمغامرات الخيالية والعشق العنيف العابر ... عودة لأهمية الشخوص والرغبة في الحكي ... وظهرت في هذه المرحلة كذلك مجلات أدبية جديدة أرخت لهذه المنعطفات والتحولات : (Grande) 1982 و( Breve ) 1980 و( nouvelle nouvelle ) 1986 و( Ecrire aujourd’hui ) 1985 و( Etat des lieux ) 1982...
إن هذه العودة إلى السرد القصصي والروائي ليست ثورة محافظة كما قال ( بيير بورديو) بل إنها مرتبطة بالتمركز الرأسمالي في عملية النشر الذي اهتم قبل كل شيء بالمردودية المادية المحضة ... وقد تجلى هذا خصوصا في أواخر الثمانينات إذ انقلبت توجهات دور النشر رأسا على عقب ؛ من الإهتمام بالنص السردي إلى الإهتمام بالمال ، ومن الإهتمام بوجهات النظر إلى التدبير التجاري .
مما لاشك فيه أن الأعمال الأدبية سابقة زمنيا على نظرية الأجناس ؛ وبعض النقاد المهتمين بالقصة القصيرة ( روني كودين ) مثلا يقرون أن القصة القصيرة ليست جنسا سرديا منعزلا ، قائم الذات بتقنياته وعوالمه وعوامله ... ومنذ 1980 تفككت علاقة المحايثة بين ما هو نظري وما هو تطبيقي ، فلم تعد القصة واقعية كما كنا نظن بل صارت فانتاستيكية ، غرائبية ، و لم يعد لها هدف تتغياه وأخيرا لم تعد وجيزة كما هو شكلها وكما هي روحها بل ظهرت في التسعينات أعمال روائية بمساحات سردية أقصر من القصة . وقد لاحظنا منذ
سنوات موجة ما سمي ب (النوفيلا عموما نزوعاقويا لتجريب أشكال سردية بسيطة . هذه الإنتاجات القصصية الطويلة
والتي تستشرف مستويات السرد الروائية والتي سبقت الإشارة إليها آنفا ;وتم تداول هذا المفهوم الجديد خصوصا في البلدان اللأنكلوسكسونية منذ عشرات السنين للإشارة إلى أشكال قصصية متوسطة الطول والتي تتموقع على مستوى اقتصادها اللغوي بين القصة والرواية كما قال
جيرارجيلبسي) ولم يقتصر الكتاب في فرنسا على ارتياد هذا الجنس السردي بل أصبحوا يتداولونه في في الصالونات الأدبية .
هذه ( النوفيلا ) الجديدة صارت حقلا ثريا ومختبرا للتجريب على مستوى القصة الطويلة أو الرواية القصيرة .. إنها نتاجات قصصية أو روائية في حجم 80 ورقة ونسوق هنا مثال قصة ( accident de parcours) ل ( روجي فيريني ) و ( le jour ou Beaumont fit connaissance de sa douleur ) ل ( جون ماري ) و ( les fenètre aux ombres ) ل ( مارك بوتي ) .
هذه التجارب القصصية تعبرعن ا أشكال ( ممسوخة) أو قصص بأشكال مشوهة تفتقد لأسماء خاصة . ونعطي في هذا السياق مثلا
بقصة: ( la tablette de buis d’Aproninia Avitia ) ل ( باسكال كانيار) وهو عمل قصصي من ثلاثة وستين ورقة والذي يعبر بحق على نهاية الأمبراطورية الروائية باعتماده على المذكرات اليومية المتشظية على شكل قسيمات ( tablettes ) . ماذا عسانا أن نسمي هذه الثلاثة والستون ورقة ؟ إنها ليست عملا روائيا بكل تأكيد وكل ما يمكن أن نقول عنها أنها إبداع خيالي من جنس ( النوفيلا ).
( conte، fable، recit، histoire ) ليست جميعها سوى أسماء متعددة لشكل واحد هو السرد الوجيز، وإلى حدود أواسط التسعينات سجلت ندرة في إصدار المجاميع القصصية بمختلف هذه المستويات السردية السابقة الذكر ونسوق هنا مثالا واحدا ( l’occupation des sols ) للكاتب (ean echenoz ) ؛
يتبـــــــــــــــــــــــــــــع